الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)} أمر تعالى نبيه بالصبر تأنيساً له، وإلافهو، عليه السلام، في غاية الصبر، وأخبر بأن ما وعده من النصر والظفر وإعلاء كلمته وإظهار دينه حق. قيل: وجواب {فإما نرينك} محذوف لدلالة المعنى عليه، أي فيقر عينك، ولا يصح أن يكون {فإلينا يرجعون} جواباً للمعطوف عليه والمعطوف، لأن تركيب {فإما نرينك} بعض الموعود في حياتك، {فإلينا يرجعون} ليس بظاهر، وهو يصح أن يكون جواب، {أو نتوفينك}: أي {فإلينا يرجعون}، فننتقم منهم ونعذبهم لكونهم لم يتبعوك. ونظير هذه الآية قوله: {فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون} إلا أنه هنا صرح بجواب الشرطين. وقال الزمخشري: {فإلينا يرجعون} متعلق بقوله: {نتوفينك}، وجزاء {نرينك} محذوف تقديره: فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب، وهو القتل يوم بدر فذاك، أو أن نتوفينك قبل يوم بدر، فإلينا يرجعون يوم القيامة، فننتقم منهم أشد الانتقام. وقد تقدم للزمخشري نحو هذا البحث في سورة يونس في قوله: {وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم} ورددنا عليه، فيطالع هناك. وقال الزمخشري أيضاً: {فإما نرينك} أصله فإن نرك، وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط، ولذلك ألحقت النون بالفعل. ألا تراك لا تقول: إن تكرمني أكرمك، ولكن أما تكرمني أكرمك؟ انتهى. وما ذهب إليه من تلازم ما لمزيده، ونون التوكيد بعد أن الشرطية هو مذهب المبرد والزجاج. وذهب سيبويه إلى أنك إن شئت أتيت بما دون النون، وإن شئت أتيت بالنون دون ما. قال سيبويه في هذه المسألة: وإن شئت لم تقحم النون؛ كما أنك إذا جئت لم تجئ بما، يعني لم تقحم النون مع مجيئك بما، ولم تجئ بما مع مجيئك بالنون. وقرأ الجمهور: يرجعون بياء الغيبة مبنياً للمفعول؛ وأبو عبد الرحمن، ويعقوب: بفتح الياء؛ وطلحة بن مطرف، ويعقوب في رواية الوليد بن حسان: بفتح تاء الخطاب. ثم رد تعالى على العرب في إنكارهم بعثة الرسل، وفي عدد الرسل اختلاف. روي أنه ثمانية آلاف من بني إسرائيل، وأربعة آلاف من غيرهم. وروي: بعث الله أربعة آلاف نبي، {منهم من قصصنا عليك}: أي من أخبرناك به، أما في القرآن فثمانية عشر. {ومنهم من لم نقصص عليك}، وعن علي، وابن عباس: أن الله بعث نبياً أسود في الحبش، فهو ممن لم يقصص عليه. {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}: أي ليس ذلك راجعاً إليهم، لما اقترحوا على الرسل قال: ليس ذلك إلى لا تأتي آية إلا إن شاء الله، {فإذا جاء أمر الله}: رد ووعيد بإثر اقتراحهم الآيات، وأمر الله: لقيامة. والمبطلون: المعاندون مقترحون الآيات، وقد أتتهم الآيات، فأنكروها وسموها سحراً، أو {فإذا جاء أمر الله}: أي أراد إرسال رسول وبعثة نبي، قضي ذلك وأنفذه {بالحق}، وخسر كل مبطل، وحصل على فساد آخرته، أو {فإذا جاء أمر الله}: وهو القتل ببدر. ثم ذكر تعالى آيات اعتبار وتعداد نِعم فقال: {الله الذي جعل لكم الأنعام}، وهي ثمانية الأزواج، ويضعف قول من أدرج فيها الخيل والبغال والحمير وغير ذلك مما ينتفع به من البهائم، وقول من خصها بالإبل وهو الزجاج. {لتركبوا منها}: وهي الإبل، إذ لم يعهد ركوب غيرها. {ومنها تأكلون}: عام في ثمانية الأزواج، ومن الأولى للتبعيض. وقال ابن عطية: ومن الثانية لبيان الجنس، لأن الجمل منها يؤكل. انتهى، ولا يظهر كونها لبيان الجنس، ويجوز أن تكون فيه للتبعيض ولابتداء الغاية. ولما كان الركوب منها هو أعظم منفعة، إذ فيه منفعة الأكل والركوب. وذكر إيضاً أن في الجميع منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك، أكد منفعة الركوب بقوله: {ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم} من بلوغ الأسفار الطويلة، وحمل الأثقال إلى البلاد الشاسعة، وقضاء فريضة الحج، والغزو، وما أشبه ذلك من المنافع الدينية والدنيوية. ولما كان الركوب وبلوغ الحاجة المترتبة عليه قد يتوصل به إلى الانتقال لأمر واجب، أو مندوب كالحج وطلب العلم، دخل حرف التعليل على الركوب وعلى المترتب عليه من بلوغ الحاجات، فجعل ذلك علة لجعل الأنعام لنا. ولما كان الأكل وإصابة المنافع من جنس المباحات، لم يجعل ذلك علة في الجعل، بل ذكر أن منها نأكل، ولنا فيها منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك، كما أدخل لام التعليل في لتركبوها، ولم يدخلها على الزينة في قوله: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} ولما ذكر تعالى ما امتن به من منة الركوب للإبل في البر، ذكر ما امتن به من نعمة الركوب في البحر فقال: {وعليها وعلى الفلك تحملون}. ولما كان الفلك يصح أن يقال فيه: حمل في الفلك، كقوله: {احمل فيها} ويصح أن يقال فيه حمل على الفلك، اعتبر لفظ على لمناسبة قوله: {وعليها}، وإن كان معنى في صحيحاً {ويريكم آياته}: أي حججه وأدلته على وحدانيته. {فأي آيات الله تنكرون}: أي إنها كثيرة، فأيها ينكر؟ أي لا يمكن إنكار شيء منها في العقول، {فأي آيات الله} منصوب بتنكرون. قال الزمخشري: {فأي آيات} جاءت على اللغة المستفيضة، وقولك: فأية آيات الله قليل، لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو: حمار وحمارة غريب، وهي في أي أغرب لإبهامه. انتهى، ومن قلة تأنيث: أي قوله: بأي كتاب أم بأية سنة *** ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب وقوله: وهي في أي أغرب، إن عنى أياً على الإطلاق فليس بصحيح، لأن المستفيض في النداء أن يؤنث نداء المؤنث لقوله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة} ولا يعلم من يذكرها فيه فيقول: يا أيها المرأة، إلا صاحب كتاب البديع في النحو. وإن عنى غير المناداة، فكلامه صحيح، فقل تأنيثها في الاستفهام وموصولة، وما في قوله: {فما أغنى} نافية شرطية واستفهامية في معنى النفي، وما فيما كانوا مصدرية، أو بمعنى الذي، وهي في موضع رفع، والضمير في {جاءتهم} عائد على {الذين من قبلهم}. وجاء قوله: {من العلم} على جهة التهكم بهم، أي في الحقيقة لا علم لهم، وإنما لهم خيالات واستبعادات لما جاءت به الرسل، وكانوا يدفعون ما جاءت به الرسل بنحو قولهم: {ولئن رددت إلى ربى لأجدن خيراً منها منقلباً} أو اعتقدوا أن عندهم علماً يستغنون به عن علم الأنبياء، كما تزعم الفلاسفة. والدهريون كانوا إذا سمعوا بوحي الله، دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم. ولما سمع سقراط، لعنه الله، بموسى، صلوات الله على نبينا وعليه، قيل له: لو هاجرت إليه، فقال: نحن قوم مهذبون، فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا. وعلى هذين القولين تكون الضمائر متناسقة عائدة على مدلول واحد. وقيل: الضمير في {فرحوا}، وفي {بما عندهم} عائد على الرسل، أي فرحت الرسل بما أوتوا من العلم، وشكروا الله عليه، لما رأوا جهل من أرسلوا إليهم واستهزاءهم بالحق، وعلموا سوء عاقبتهم. وقيل: الضمير في {فرحوا} عائد على الأمم، وفي {بما عندم} عائد على الرسل، أي فرح الكفار بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء. وقال الزمخشري: ومنها، أي من الوجوه التي في الآية في قوله: {فرحوا بما عندهم من العلم}، مبالغة في نفي فرحهم بالوحي الموجب لأقصى الفرح والسرور في تهكم بفرط جهلهم وخلوهم من العلم. انتهى. ولا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام، نحو قولهم: شر أهر ذا ناب، على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإيتاء المحصور جاز. وأما في الآية فينبغي أن لا يحمل على القليل، لأن في ذلك تخليطاً لمعاني الجمل المتباينة، فلا يوثق بشيء منها. وقال الزمخشري: ويجوز أن يراد {فرحوا بما عندهم من العلم}: علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} ذلك مبلغهم من العلم، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانات، وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات، لم يلتفتوا إليها، وصغروها واستهزؤوا بها، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به. انتهى، وهو توجيه حسن، لكن فيه إكثار وشقشقة. {بأسنا}: أي عذابنا الشديد، حكى حال من آمن بعد تلبيس العذاب به، وأن ذلك لم يك نافعاً، وفي ذلك حض على المبادرة إلى الإيمان، وتخويف من التأني. فأما قوم يونس، فإنهم رأوا العذاب لم يلتبس بهم، وتقدمت قصتهم. وإيمانهم مرفوع بيك اسماً لها، أو فاعل ينفعهم. وفي يك ضمير الشأن على الخلاف الذي في: كان يقوم زيد، ودخل حرف النفي على الكون، لا على النفي، لأنه يؤدي إلى نفي الصحة، إي لم يصح ولم يستقم لقوله: {ما كان لله أن يتخذ من ولد} وترادف هذه الفاءات، أما في {فما أغنى}، فلأنه كان نتيجة قوله: {كانوا أكثر منهم، ولما جاءتهم رسلهم}، جار مجرى البيان والتفسير لقوله: {فما أغنى عنهم}. و{فلما رأوا بأسنا} تابع لقوله: {فلما جاءتهم}، كأنه قال: فكفروا به فلما رأوا بأسنا آمنوا ولم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأس الله، وانتصب سنة على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة، أي أن ما فعل بهم هي سنة الله التي قد مضت وسبقت في عباده من إرسال الرسل والإعزاز بهم، وتعذيب من كذبهم واستهانتهم واستئصالهم بالهلاك، وعدم الانتفاع بالإيمان حالة تلبس العذاب بهم. وهنالك ظرف مكان استعير للزمان، أي وخسر في ذلك الوقت الكافرون. وقيل: سنة منصوب على التحذير، أي احذروا سنة الله يا أهل مكة في إعداد الرسل.
{حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)} هذه السورة مكية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها، أنه قال في آخر ما قبلها: {أفلم يسيروا في الأرض} إلى آخرها، فضمن وعيداً وتهديداً وتقريعاً لقريش، فأتبع ذلك التقريع والتوبيخ والتهديد بتوبيخ آخر، فذكر أنه نزل كتاباً مفصلاً آياته، بشيراً لمن اتبعه، ونذيراً لمن أعرض عنه، وأن أكثر قريش أعرضوا عنه. ثم ذكر قدرة الإله على إيجاد العالم العلوي والسفلي. ثم قال: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة}، فكان هذا كله مناسباً لآخر سورة المؤمن من عدم انتفاع مكذبي الرسل حين التبس بهم العذاب، وكذلك قريش حل بصناديدها من القتل والأسر والنهب والسبي، واستئصال أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حل بعاد وثمود من استئصالهم. روي أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه، وليقبح عليه فيما بينه وبينه، وليبعد ما جاء به. فلما تكلم عتبة، قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {حم}، ومر في صدرها حتى انتهى إلى قوله: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود}، فأرعد الشيخ ووقف شعره، فأمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وناشده بالرحم أن يمسك، وقال حين فارقه: والله لقد سمعت شيئاً ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي. {تنزيل}، رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا تنزيل عند الفراء، أو مبتدأ خبره {كتاب فصلت}، عند الزجاج والحوفي، وخبر {حم} إذا كانت اسماً للسورة، وكتاب على قول الزجاج بدل من تنزيل. قيل: أو خبر بعد خبر. {فصلت أياته}، قال السدي: بينت آياته، أي فسرت معانيه، ففصل بين حرامه وحلاله، وزجره وأمره، ووعده ووعيده. وقيل: فصلت في التنزيل: أي لم تنزل جملة واحدة. قال الحسن: بالوعد والوعيد. وقال سفيان: بالثواب والعقاب. وقال ابن زيد: بين محمد صلى الله عليه وسلم، ومن خالفه. وقيل: فصلت بالمواقف وأنواع، أو آخر الآي، ولم يكن يرجع إلى قافية ولا نحوها، كالشعر والسجع. وقال أبو عبد الله الرازي: ميزت آياته، وجعل تفاصيل معان مختلفة، فبعضها في وصف ذات الله تعالى، وشرح صفات التنزيه والتقديس، وشرح كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته، وعجائب أحوال خلقه السموات والكواكب، وتعاقب الليل والنهار، وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان؛ وبعضها في أحوال التكاليف المتوجهة نحو القلب ونحو الجوارح، وبعضها في الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، ودرجات أهل الجنة ودركات أهل النار؛ وبعضها في المواعظ والنصائح؛ وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس؛ وبعضها في قصص الأولين وتواريخ الماضين. وبالجملة، فمن أنصف، علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمباحث المتباينة مثل ما في القرآن. انتهى. وقرئ: فصلت، بفتح الفاء والصاد مخففة، أي فرقت بين الحق والباطل؛ أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها، من قوله: {فصلت العير} أي انفصلت، وفصل من البلد: أي انفصل منه، وانتصب {قرآناً} على أنه حال بنفسه، وهي مؤكدة، لأنها لا تنتقل، أو توطئة للحال بعده، وهي {عربياً}، أو على المصدر، أي يقرؤه قرآناً عربياً، أو على الاختصاص والمدح. ومن جعله حالاً فقيل: ذو الحال آياته، وقيل: كتاب، لأنه وصف بقوله: {فصلت آياته}، أو على إضمار فعل تقديره: فصلناه قرآناً، أو مفعول ثان لفصلت، أقوال ستة آخرها للأخفش. و{لقوم} متعلق بفصلت، أي يعلمون الأشياء، ويعقلون الدلائل، فكأنه فصل لهؤلاء، إذ هم ينتفعون به فخصوا بالذكر تشريفاً، ومن لم ينتفع بالتفصيل فكأنه لم يفصل له ويبعد أن يتعلق بتنزيل لكونه وصف في أحد متعلقيه، إن كان من الرحمن في موضع الصفة، أو أبدل منه كتاب، أو كان خبر التنزيل، فيكون في ذلك البدل من الموصول، والإخبار عنه قبل أخذه متعلقه، وهو لا يجوز، وقيل: لقوم في موضع الصفة لقوله: {عربياً}، أي كائناً لقوم يعلمون ألفاظه ويتحققون أنه لم يخرج عن نمط كلامهم، وكأنه رد على من زعم أن في القرآن ما ليس من كلام العرب. وانتصب {بشيراً ونذيراً} على النعت لقرآناً عربياً، وقيل: حال من آياته. وقرأ زيد بن علي: بشير ونذير برفعهما على الصفة لكتاب، أو على خبر مبتدأ محذوف، وبشارته بالجنة لمن آمن، ونذارته بالنار لمن كفر. {فأعرض أكثرهم}: أي أكثر أولئك القوم، أي كانوا من أهل العلم ولكن لم ينظروا النظر التام، بل أعرضوا، {فهم لا يسمعون} لإعراضهم عن ما احتوى عليه من الحجج والبراهين، أو لما لم ينتفع به ولم يقبله جعل كأنه لم يسمعه. ثم أخبر تعالى عنهم بالمقالة الدالة على امتناع قلوبهم، والناس من رجوعهم إليه ومن سماعهم لما يتلوه، وهو قوله تعالى، حكاية عنهم: {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذننا وقر}، تقدم الكلام على شبه ذلك في الأنعام. وقرأ طلحة: وقر بكسر الواو، وهذه تمثيلات لامتناع قبول الحق، كأن قلوبهم في غلاف، كما قالوا: {وقالوا قلوبنا غلف} وكأن أسماعهم عند ذكر كلام الله بها صمم. والحجاب: الستر المانع من الإجابة، وهو خلاف في الدين، لأنه يعبد الله وهم يعبدون الأصنام، قال معناه الفراء وغيره. ويروى أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوباً وقال: يا محمد، بيننا وبينك حجاب، استهزاء منه. وقيل: تمثيل بعدم الإجابة. وقيل: عبارة عن العداوة. ومن في {مما تدعونا} إليه لابتداء الغاية، وكذا في {ومن بيننا}. فالمعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب، لا فراغ فيها، ولو لم يأت بمن لكان المعنى أن حجاباً حاصل وسط الجهتين، والمقصود المبالغة بالتباين المفرط، فلذلك جيء بمن. وقال الزمخشري: فإن قلت: هلا قيل: على قلوبنا أكنة، كما قيل: {وفي آذاننا وقر}، ليكون الكلام على نمط واحد؟ قلت: هو على نمط واحد، لأنه لا فرق في المعنى بين قولك: {قلوبنا في أكنة}، والدليل عليه قوله تعالى: {إنا جعلنا على قلوبهم} ولو قيل: إنا جعلنا قلوبهم في أكنة، لم يختلف المعنى، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني، وتقول: إن في أبلغ في هذا الموضع من على، لأنهم قصدوا إفراط عدم القبول، لحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف، فلا يمكن أن يصل إليها شيء. كما تقول: المال في الكيس، بخلاف قولك: على المال كيس، فإنه لا يدل على الحصر، وعدم الحصول دلالة الوعاء. وأما في قوله: {إنا جعلنا}، فهو من أخبار الله تعالى، لا يحتاج إلى مبالغة، بخلاف قولهم. وقول الزمخشري: وترى المطابيع، يعني من العرب وشعرائهم، ولذلك تلكم الناس في شعر حبيب، ولم يستحسن بعضهم كثرة صنعة البديع فيه؛ قالوا: وأحسنه ما جاء من غير تكلف. {فاعمل إننا عاملون} قال الكلبي: في هلاكنا إنا عاملون في هلاكك. وقال مقاتل: اعمل لإلهك الذي أرسلك، فإننا عاملون لآلهتنا التي نعبدها. وقال الفراء: اعمل على مقتضى دينك، ونحن نعمل على مقتضى ديننا، وذكر الماوردي: اعمل لآخرتك، فإنا نعمل لدنيانا. ولما كان القلب محل المعرفة، والسمع والبصر معينان على تحصيل المعارف، ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها مما يلقيه الرسول شيء. واحتمل قولهم: {فاعمل إننا عاملون}، أي تكون متاركة محضة، وأن يكون استخفافاً. {قل إنما}، {يوحى إليّ} وقرأ الجمهور: قل على الأمر، وابن وثاب والأعمش: قال فعلاً ماضيا، وهذا صدع بالتوحيد والرسالة. وقرأ النخعي والأعمش: يوحى بكسر الحاء؛ والجمهور: بفتحها، وأخبر أنه بشر مثلهم لا ملك، لكنه أوحى إليه دونهم. وقال الحسن: علمه تعالى التواضع، وأنه ما أوحى إليه توحيد الله ورفض آلهتكم. {فاستقيموا إليه}: أي له بالتوحيد الذي هو رأس الدين والعمل، {واستغفروه}: واسألوه المغفرة، إذ هي رأس العمل الذي بحصوله تزول التبعات. وضمن استقيموا معنى التوجه، فلذلك تعدى بإلى، أي وجهوا استقامتكم إليه، ولما كان العقل ناطقاً بأن السعادة مربوطة بأمرين: التعظيم لله والشفقة على خلقه، ذكر أن الويل والثبور والحزن للمشركين الذين لم يعظموا الله في توحيده، ونفي الشريك، ولم يشفقوا على خلقه بإيصال الخير إليهم، وأضافوا إلى ذلك إنكار البعث. والظاهر أن الزكاة على ظاهرها من زكاة الأموال، قاله ابن السائب، قال: كانوا يحجون ويعتمرون ولا يزكون. وقال الحسن وقتادة: وقيل: كانت قريش تطعم الحاج وتحرم من آمن منهم. وقال الحسن وقتادة أيضاً: المعنى لا يؤمنون بالزكاة، ولا يقرون بها. وقال مجاهد والربيع: لا يزكون أعمالهم. وقال ابن عباس والجمهور: الزكاة هنا لا إله إلا الله التوحيد، كما قال موسى عليه السلام لفرعون: {هل لك إلى أن تزكى} ويرجح هذا التأويل أن الآية من أول المكي، وزكاة المال إنما نزلت بالمدينة، قاله ابن عطية، قال: وإنما هذه زكاة القلب والبدن، أي تطهير من الشرك والمعاصي، وقاله مجاهد والربيع. وقال الضحاك ومقاتل: الزكاة هنا النفقة في الطاعة. انتهى. وإذا كانت الزكاة المراد بها إخراج المال، فإنما قرن بالكفر، لكونها شاقة بإخراج المال الذي هو محبوب الطباع وشقيق الأرواح حثاً عليها. قال بعض الأدباء: وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ *** به فأجبت المال خير من الروح أرى حفظه يفضي بتحسين حالتي *** وتضييعه يفضي لتسآل مقبوح {إن الذين آمنوا}، قال السدي: نزلت في المرضى والزمني إذا عجزوا عن إكمال الطاعات، كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون. والممنون: المنقوص، قاله ابن عباس، رضي الله عنه. قال ذو الأصبغ العدواني: إني لعمرك ما بابي بذي غلق *** على الصديق ولا خيري بممنون وقال مجاهد: غير محسوب، وقيل: غير مقطوع، قال الشاعر: فضل الجواد على الخيل البطاء فلا *** يعطى بذلك ممنوناً ولا نزقا وقيل: لا يمن به لأن أعطيات الله تشريف، والمن إنما يدخل أعطيات البشر. وقيل: لا يمن به لأنه إنما بمن التفضيل، فأما الآخر فحق أداؤه، نقله الزمخشري، وفيه دسيسة الاعتزال. {قل أئنكم لتكفرون}: استفهام توبيخ وتشنيع عليهم، يكفر من أوجد العالم سفليه وعلويه، ووصف صورة خلق ذلك ومدته، والحكمة في الخلق في مدة هو قادر على أن يوجد ذلك دفعة واحدة. فذكر تعالى إيجاد ذلك مرتباً، وتقدم الكلام في الخلق في مدة هو قادر على أن يوجد ذلك دفعة واحدة. فذكر تعالى إيجاد ذلك مرتب، وتقدم الكلام في أول ما ابتدئ فيه الخلق، وما خلق مرتباً. ومعنى {في يومين}: في مقدار يومين. {وتجعلون له أنداداً}: أي أشباهاً وأمثالاً من الملائكة والجن والأصنام يعبدونها دونه. وقال السدي: أكفاء من الرجال يطيعونهم، وتجعلون معطوف على لتكفرون، فهو داخل في حيز الاستفهام المقتضي الإنكار والتوبيخ، {ذلك} أي موجد الأرض ومخترعها، {رب العالمين} من الأنداد التي جعلتم له وغيرهم. {وجعل فيها رواسي}: إخبار مستأنف، وليس من الصلة في شيء، بل هو معطوف على قوله: {لتكفرون}. {وبارك فيها}: أكثر فيها خيرها. {وقدر فيها أقواتها}: أي أرزاق ساكنيها ومعايشهم، وأضافهما إلى الأرض من حيث هي فيها وعنها برزت، قاله السدي. وقال قتادة: أقواتها من الجبال والأنهار والأشجار والصخور والمعادن، والأشياء التي بها قوام الأرض ومصالحها. وقال مجاهد: أقواتها من المطر والمياه. وقال عكرمة والضحاك ومجاهد أيضاً: خصائصها التي قسمها في البلاد مما خص به كل إقليم، فيحتاج بعضها إلى بعض في التفوّت من الملابس والمطاعم والنبات. {في أربعة أيام}: أي في تمام أربعة أيام باليومين المتقدمين. وقال الزمخشري {في أربعة أيام}، فذلكة لمدة خلق الله وما فيها، كأنه قال: كل ذلك في أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان. وقال الزجاج: في تتمة أربعة أيام، يريد بالتتمة اليومين. انتهى، وهذا كما تقول: بنيت جدار بيتي في يوم، وأكملت جميعه في يومين، أي بالأول. وقال أبو عبد الله الرازي: ويفقه من كلام الزمخشري في أربعة أيام فائدة زائدة على قوله في يومين، لأن قوله في يومين لا يقتضي الاستغراق لذلك العمل. أما لما ذكر خلق الأرض وخلق هذه الأشياء، ثم قال في أربعة أيام سواء، دل على أن هذه الأيام مستغرقة في تلك الأعمال من غير زيادة ونقصان. انتهى. ولا فرق بين يومين وأربعة أيام بالنسبة إلى الاستغراق، فإن كانت أربعة تقتضي الاستغراق، وكذلك اليومين يقتضيانه، ومتى كان الظرف معدوداً، كان العمل في جميعه، إما على سبيل التعميم، نحو: سرت يومين، وقد يكون في بعض كل يوم منها، نحو: تهجدت ليلتين، فاحتمل الاستغراق، واحتمل في بعض كل واحد من الليلتين؛ وإذا كان كذلك، احتمل أن يكون وقع الخلق للأرض في بعض كل واحد من اليومين، واحتمل أن يكون اليومين مستغرقين لخلقها، فكذلك في أربعة أيام يحتمل الاستغراق، وأن يكون خلق الأرض والجبال والبركة وتقدير الأقوات وقع في بعض كل يوم من الأربعة، فما قاله أبو عبد الله الرازي لم تظهر به فائدة زائدة. وقرأ الجمهور: سواء بالنصب على الحال؛ وأبو جعفر بالرفع: أي هو سواء، وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي إسحاق وعمرو بن عبيد وعيسى ويعقوب: بالخفض نعتاً لأربعة أيام. قال قتادة والسدي: معناه سواء لمن سأل عن الأمر واستفهم عن حقيقة وقوعه وأراد العبرة منه، فإنه يجده كما قال تعالى. وقال ابن زيد وجماعة: معناه متسوٍ مهيأ. أمر هذه المخلوقات ونفعها للمحتاجين إليها من البشر، فعبر بالسائلين عن الطالبين لأنهم من شأنهم ولا بد طلب ما ينتفعون به، إذ هم بحال حاجة. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق قوله: {للسائلين}؟ قلت: بمحذوف، كأنه قيل هذا الحصر لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها، أو يقدر، أو قدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين المقتاتين. انتهى، وهو راجع لقول المفسرين المتقدمين. ولما شرح تخليق الأرض وما فيها، أتبعه بتخليق السماء فقال: {ثم استوى إلى السماء}: أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها، والمعنى: إلى خلق السماء. والظاهر أن المادة التي خلقت منها السماء كانت دخاناً. وفي أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة إن عرشه تعالى كان على الماء قبل خلق السموات والأرض، فأحدث الله في ذلك سخونة، فارتفع زبد ودخان، أما الزبد فبقي على وجه الماء، فخلق الله منه اليبوسة وأحدث منه الأرض؛ وأما الدخان فارتفع وعاد فخلق الله منه السموات. وفيه أيضاً أنه خلق السماء من أجزاء مظلمة. انتهى. وروي أنها كانت جسماً رخواً كالدخان أو البخار. قال ابن عطية: هنا لفظ متروك يدل عليه الظاهر، وتقديره: فأوجدها وأتقنها وأكمل أمورها، وحينئذ {قال لها وللأرض ائتيا}. انتهى، فجعل ابن عطية هذه المحاورة بين الباري تعالى والأرض والسماء بعد خلق الأرض والسماء، ورجح قول من ذهب إلى أنهما نطقتا نطقاً حقيقياً، وجعل الله لهما حياة وإدراكاً يقتضي نطقهما، بعد أن ذكر أن المفسرين منهم من ذهب إلى أن ذلك مجاز، وأنه ظهر منهما عن اختيار الطاعة والتذلل والخضوع ما هو بمنزلة القول، قال: والقول الأول أحسن، لأنه لا شيء يدفعه، وأن العبرة فيه أتم، والقدرة فيه أظهر. انتهى. وقال الزمخشري: ويعني أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما أنه أراد تكوينهما، فلم يمتنعا عليه، ووجدتا كما أرادهما، وجاءتا في ذلك كالمأمور المطيع، إذ أورد عليه فعل الآمر فيه. على أن الله تعالى كلم السماء والأرض وقال لهما: {ائتيا}، شئتما ذلك أو أبيتما، فقالتا: آتينا على الطوع لا على الكره. والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير، من غير أن يحقق شيء من الخطاب والجواب، ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد: لم تشقني؟ قال الوتد: سل من يدقني، فلم يتركني وراء الحجر الذي ورائي. فإن قلت: لم ذكر السماء مع الأرض وانتظمهما في الأمر بالإتيان، والأرض مخلوقة قبل السماء بيومين؟ قلت: قد خلق جرم الأرض أولاً غير مدحوة، ثم دحاها بعد خلق السماء، كما قال: {والأرض بعد ذلك دحاها} فالمعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف؛ ائت يا أرض مدحوة قراراً ومهاداً لأهلك، وائت يا سماء مقببة سقفاً لهم. ومعنى الإتيان: الحصول والوقوع، كما يقول: أتى عمله مرضياً مقبولاً. ويجوز أن يكون المعنى: لتأت كل واحدة صاحبتها الإتيان الذي أريده وتقتضيه الحكمة، والتدبير من كون الأرض قراراً للسماء، وكون السماء سقفاً للأرض، وينصره قراءة من قرأ: أتيا وأتينا من المواتاة، وهي الموافقة، أي لتوات كل واحدة أختها ولتوافقها، قالتا: وافقنا وساعدنا. ويحتمل وافقا أمري ومشيئتي ولا تمتنعا. فإن قلت: ما معنى طوعاً أو كرهاً؟ قلت: هو مثل للزوم تأثير قدرته فيهما، وأن امتناعهما من تأثير قدرته محال، كما يقول الجبار لمن يحب بلوه: لتفعلن هذا شئت أو أبيت، ولتفعلنه طوعاً أو كرهاً. وانتصابهما على الحال بمعنى طائعتين أو مكرهتين. فإن قلت: هلا قيل طائعتين على اللفظ أو طائعتان على المعنى لأنهما سموات وأرضون؟ قلت: لما جعلت مخاطبات ومجيبات، ووصفت بالطوع والكره، قيل: طائعين في موضع طائعات نحو قوله: ساجدين. انتهى. وقرأ الجمهور: ائتيا من الإتيان، أي ائتيا أمري وإرادتي. وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد: أتيا على وزن فعلا، قالتا: أتينا على وزن فعلنا، من آتى يؤتى، كذا قال ابن عطية، قال: وذلك بمعنى أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما، والإشارة بهذا كله إلى تسخيرها وما قدره الله من أعمالها. انتهى. وتقدم في كلام الزمخشري أنه جعل هذه القراءة من المواتاة، وهي الموافقة، فيكون وزن آتيا: فاعلاً، وآتينا: فاعلنا، وتقدمه إلى ذلك أبو الفضل الرازي قال: آتينا بالمد على فاعلنا من المواتاة، ومعناه: سارعنا على حذف المفعول منه، ولا يجوز أن يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوله. انتهى. وقرأ الأعمش: أو كرهاً بضم الكاف، والأصح أنه لغة في الإكراه على الشيء الموقوع التخيير بينه وبين الطواعية، والأكثر أن الكره بالضم معناه المشقة. قال ابن عطية: وقوله قالتا، أراد الفرقتين المذكورتين: جعل السموات سماء، والأرضين أرضاً، وهذا نحو قول الشاعر: ألم يحزنك أن حبال قومي *** وقومك قد تباينتا انقطاعاً وعبر عنها بتباينتا. انتهى. هذا وليس كما ذكر، لأنه إنما تقدم ذكر الأرض مفردة والسماء مفرد لحسن التعبير عنهما بالتثنية، والبيت هو من وضع الجمع موضع التثنية، كأنه قال: ألم يحزنك أن حبلى قومي وقومك؟ ولذلك ثنى في قوله: تباينتا، وأنث على معنى الحبل، لأنه لا يريد به الحبل حقيقة، إنما عنى به الذمة والمودة التي كانت بين قومهما. والظاهر من هذه الآية أنه خلق الأرض وجعل فيها الرواسي وبارك فيها، ثم أوجد السماء من الدخان فسواها سبع سموات، فيكون خلق الأرض متقدماً على خلق السماء، ودحو الأرض غير خلقها، وقد تأخر عن خلق السماء، وقد أورد على هذا أن جعل الرواسي فيها والبركة. وتقدير الأقوات لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض موجودة. وقوله: {وبارك فيها وقدر فيها أقواتها} مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها، ولا يمكن ذلك إلا بعد صيرورتها منبسطة. ثم قال بعد: {ثم استوى إلى السماء}، فاقتضى خلق السماء بعد خلق الأرض ودحوها. وأورد أيضاً أن قوله تعالى للسماء وللأرض: {ائتيا طوعاً أو كرهاً}، كناية عن إيجادهما، فلو سبق إيجاد الأرض على إيجاد السماء لاقتضى إيجاد الموجود بأمره للأرض بالإيجاد، وهو محال، وقد انتهى هذا الإيراد. ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال: خلق الله السماء قبل الأرض، وتأول قوله: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان} قبل أن يخلق الأرض، فأضمر فيه كان، كما قال تعالى: {إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل} معناه: إن يكن سرق. انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي: فقدر ثم كان قد استوى جمع بين ضدين، لأن ثم تقتضي التأخر، وكان تقتضي التقدم، فالجمع بينهما يفيد التناقض، ونظيره: ضربت زيداً اليوم، ثم ضربت عمراً أمس. فكما أن هذا باطل، فكذلك ما ذكر يعني من تأويل ثم كان قد استوى، قال: والمختار عندي أن يقال: خلق السماء مقدم على خلق الأرض. وتأويل الآية أن الخلق ليس عبارة عن التكوين، والإيجاد يدل عليه قوله: {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} وهذا محال، لا يقال للشيء الذي وجد كن، بل الخلق عبارة عن التقدير، وهو في حقه تعالى حكمه أن سيوجد، وقضاؤه بذلك بمعنى خلق الأرض في يومين، وقضاؤه بأن سيحدث كذا، أي مدة كذا، لا يقتضي حدوثه ذلك في الحال، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء. انتهى. والذي نقوله: أن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني، وأن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان، والمهلة كأنه قال: فالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء، فلا تعرض في الآية لترتيب، أي ذلك وقع الترتيب الزماني له. ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض، ألف الأخبار فيه بثم، فصار كقوله: {ثم كان من الذين آمنوا} بعد قوله: {فلا اقتحم العقبة} ومن ترتيب الأخبار {ثم آتينا موسى الكتاب} بعد قوله: {قل تعالوا أتل} ويكون قوله تعالى: {فقال لها وللأرض}، بعد إخباره بما أخبر به، تصويراً لخلقهما على وفق إرادته تعالى، كقولك: أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت إنك عالم صالح؟ فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له. فكذلك أخبر بأنه خلق كيت وكيت، فحد ذلك إيجاداً لم يتخلف عن إرادته. ويدل على أنه المقصود الإخبار بوقوع هذه الأشياء من غير ترتيب زماني قوله في الرعد: {الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها} الآية، ثم قال بعد: {وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً} الآية. وظاهر الآية التي نحن فيها جعل الرواسي، وتقدير الأقوات قبل الاستواء إلى السماء وخلقها، ولكن المقصود في الآيتين الإخبار بصدور ذلك منه تعالى من غير تعرض لترتيب زماني، وما جاء من ذلك مقصوراً على يومين أو أربعة أو ستة إنما المعنى في مقدار ذلك عندكم، لا أنه كان وقت إيجاد ذلك زمان. {فقضاهن سبع سموات}: أي صنعهن وأوجدهن، كقول ابن أبي ذؤيب: وعليهما مسرودتان قضاهما *** داود أو صنع السوابغ تبع وعلى هذا انتصب سبع على الحال. وقال الحوفي: مفعول ثان، كأنه ضمن قضاهن معنى صيرهن فعداه إلى مفعولين، وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون ضميراً مبهماً سبع سموات على التمييز. ويعني بقوله مبهماً، ليس عائداً على السماء، لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى، بخلاف الحال أو المفعول الثاني، فإنه عائد على السماء على المعنى. {وأوحي في كل سماء أمرها}، قال مجاهد وقتادة: وأوحى إلى سكانها وعمرتها من الملائكة وإليها هي في نفسها ما شاء تعالى من الأمور التي هي قوامها وصلاحها، وقاله السدي وقتادة: ومن الأمور التي هي بغيرها مثل ما فيها من جبال البرد ونحوها، وأضاف الأمر إليها من حيث هو فيها. وقال الزمخشري: أمرها ما أمر به فيها ودبره من خلق الملائكة والنيرات وغير ذلك. {وحفظاً}: أي وحفظناها حفظاً من المسترقة بالثواقب، ويجوز أن يكون مفعولاً له على المعنى، كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وحفظاً انتهى. ولا حاجة إلى هذا التقدير الثاني، وتكلفه مع ظهور الأول وسهولته ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر، أي أوجده بقدرته وعزه وعلمه.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)} {فإن أعرضوا}: التفات خرج من ضمير الخطاب في قوله: {قل أئنكم لتكفرون} إلى ضمير الغيبة إعراضاً عن خطابهم، إذ كانوا قد ذكروا بما يقتضي إقبالهم وإيمانهم من الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة، {فقل أنذرتكم}: أي أعلمتكم، {صاعقة} أي حلول صاعقة. قال قتادة: عذاباً مثل عذاب عاد وثمود. وقال الزمخشري: عذاباً شديد الوقع، كأنه صاعقة. وقرأ الجمهور: {صاعقة مثل صاعقة}، وابن الزبير، والسلمي، والنخعي، وابن محيصن: بغير ألف فيهما وسكون العين، وتقدم تفسيرها في أوائل البقرة. والصعقة: المرة، يقال: صعقته الصاعقة فصعق، وهو من باب فعلت بفتح العين، ففعل بكسرها نحو: خدعته فخدع، وإذ معمولة لصاعقة لأن معناها العذاب. {من بين أيديهم ومن خلفهم}، قال ابن عباس: أي قبلهم وبعدهم، أي قبل هود وصالح وبعدهما. وقيل: من أرسل إلى آبائهم ومن أرسل إليهم؛ فيكون {من بين أيديهم} معناه: من قبلهم، {ومن خلفهم} معناه: الرسل الذين بحضرتهم. فالضمير في من خلقهم عائد على الرسل، قاله الضحاك، وتبعه الفراء، وسيأتي عن الطبري نحو من هذا القول. وقال ابن عطية: {من بين أيديهم}: أي تقدموا في الزمن واتصلت نذارتهم إلى أعمار عاد وثمود، وبهذا الاتصال قامت الحجة. {ومن خلفهم}: أي جاءهم رسول بعد تقدم وجودهم في الزمن، وجاء من مجموع العبارة إقامة الحجة عليهم في أن الرسالة والنذارة عمتهم خبر ومباشرة. انتهى، وهو شرح كلام ابن عباس. وقال الزمخشري: {من بين أيديهم ومن خلفهم}: أي آتوهم من كل جانب، واجتهدوا بهم وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتو والإعراض. كما حكى الله عن الشيطان: {لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} أي لآتينهم من كل جهة، ولأعملن فيهم كل حيلة. وعن الحسن: أنذروهم من وقائع الله فيمن قبلهم من الأمم وعذاب الآخرة، لأنهم إذا حذروهم ذلك فقد جاؤوهم بالوعظ من جهة الزمن الماضي وما جرى فيه على الكفار، ومن جهة المستقبل وما سيجري عليهم. انتهى. وقال الطبري: الضمير في قوله: {ومن خلفهم} عائد على الرسل، وفي: {من بين أيديهم} عائد على الأمم، وفيه خروج عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى، إذ يصير التقدير: جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل، أي من خلف أنفسهم، وهذا معنى لا يتعقل إلا إن كان الضمير يعود في خلفهم على الرسل لفظاً، وهو يعود على رسل أخرى معنى، فكأنه قال: جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين، فيكون كقولهم: عندي درهم ونصفه، أي ونصف درهم آخر، وهذا فيه بعد. وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما، ولوقوعهم على بلادهم في اليمن وفي الحجر، وقال الأفوه الأودي: أضحوا كقيل بن عنز في عشيرته *** إذ أهلكت بالذي سدى لها عاد أو بعده كقدار حين تابعه *** على الغواية أقوام فقد بادوا {أن لا تعبدوا}: يصح أن تكون أن تفسيرية، لأن مجيء الرسل إليهم يتضمن معنى القول، أي جاءتهم مخاطبة؛ وأن تكون مخففة من الثقيلة، أي بأنه لا تعبدوا، والناصبة للمضارع، ووصلت بالنهي كما توصل بإلا، وفي نحو: {أن طهر} وكتبت إليه بأن قم، ولا في هذه إلا وجه للنهي. ويجوز على بعد أن تكون لا نافية، وأن ناصبة للفعل، وقاله الحوفي ولم يذكر غيره. ومفعول شاء محذوف، وقدره الزمخشري: لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة. انتهى. وتتبعت ما جاء في القرآن وكلام العرب من هذا التركيب فوجدته لا يكون محذوفاً إلا من جنس الجواب، نحو قوله تعالى: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} أي لو شاء جمعهم على الهدى لجمعهم عليه، وكذلك: {لو نشاء لجعناه حطاماً} {لو نشاء جعلناه أجاجاً} {ولو شاء ربك لآمن} {ولو شاء ربك ما فعلوه} {لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء} قال الشاعر: فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد *** ولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد وقال الراجز: واللذ لو شاء لكنت صخراً *** أو جبلاً أشم مشمخرا فعلى هذا الذي تقرر، لا يكون تقدير المحذوف ما قاله الزمخشري، وإنما التقدير: لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم، وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر، إذ علقوا ذلك بأقوال الملائكة، وهو لم يشأ ذلك، فكيف يشاء ذلك في البشر؟ {فإنا بما أرسلتم به كافرون}: خطاب لهود وصالح ومن دعا من الأنبياء إلى الإيمان، وغلب الخطاب على الغيبة، نحو قولك: أنت وزيد تقومان. وما مصدرية، أي بإرسالكم، وبه توكيد لذلك. ويجوز أن يكون ما بمعنى الذي، والضمير في به عائد عليه، وإذا كفروا بما تضمنه الإرسال، كان كفراً بالإرسال. وليس قوله: {بما أرسلتم} إقراراً بالإرسال، بل هو على سبيل التهكم، أي بما أرسلتم على زعمكم، كما قال فرعون: {إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون} ولما بين تعالى كفر عاد وثمود على الإجمال، فصل بعد ذلك، فذكر خاصية كل واحدة من الطائفتين. فقال: {فأما عاد فاستكبروا}: أي تعاظموا عن امتثال أمر الله وعن ما جاءتهم به الرسل، {بغير الحق}: أي بغير ما يستحقون. ولما ذكر لهم هذا الذنب العظيم، وهو الاستكبار، وكان فعلاً قلبياً، ذكر ما ظهر عليهم من الفعل اللساني المعبر عن ما في القلب، {وقالوا من أشد منا قوة}: أي لا أحد أشد منا، وذلك لما أعطاهم الله من عظم الخلق وشدة البطش. فرد الله تعالى عليهم بأن الذي أعطاهم ذلك هو أشد منهم قوة، ومع علمهم بآيات الله، كانوا يجحدونها ولا يعترفون بها، كما يجحد المودع الوديعة من طالبها مع معرفته بها. ولفظه كان في كثير من الاستعمال تشعر بالمداومة، وعبر بالقوة عن القدرة، فكما يقال: الله أقدر منهم، يقال: الله أقوى منهم. فالقدرتان بينهما قدر مشترك، وإن تباينت القدرتان بما لكل منهما من الخاصة. كما يوصف الله تعالى بالعلم، ويوصف الإنسان بالعلم. ثم ذكر تعالى ما أصاب به عاداً فقال: {فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً} في الحديث: «أنه تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا عليهم قدر حلقة الخاتم، ولو فتحوا قدر منخر الثور لهلكت الدنيا» وروي أنها كانت تحمل العير بأوقادها، فترميهم في البحر. والصرصر، قال مجاهد: شديدة السموم. وقال ابن عباس، والضحاك، وقتادة، والسدي: من الصر، أي باردة. وقال السدي أيضاً، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والطبري، وجماعة: من صرصر إذا صوت. وقال ابن الكسيت: صرصر، يجوز أن يكون من الصرة، وهي الصيحة، ومنه: {فأقبلت امرأته في صرة} وصرصر: نهر بالعراق. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو، والنخعي، وعيسى، والأعرج نحسات، بسكون الحاء، فاحتمل أن يكون مصدراً وصف به وتارة يضاف إليه، واحتمل أن يكون مخففاً من فعل. وقال الطبري: نحس ونحس: مقت. وقال الزمخشري: مخفف نحس، أو صفة على فعل، أو وصف بمصدر. انتهى. وتتبعت ما ذكره التصريفيون مما جاء صفة من فعل اللازم فلم يذكروا فيه فعلاً بسكون العين، قالوا: يأتي على فعل كفرح وهو فرح، وعلى أفعل حور فهو أحور، وعلى فعلان شبع فهو شبعان، وقد يجيء على فاعل سلم فهو سالم، وبلى فهو بال. وقرأ قتادة، وأبو رجاء، والجحدري، وشيبة، وأبو جعفر، والأعمش، وباقي السبعة: بكسر الحاء وهو القياس، وفعله نحس على فعل بكسر العين، ونحسات صفة لأيام جمع بألف وتاء، لأنه جمع صفة لما لا يعقل. قال مجاهد، وقتادة، والسدّي: مشائيم من النحس المعروف. وقال الضحاك: شديدة البرد، وحتى كان البرد عذاباً لهم. وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد: كأن سلافة عرضت بنحس *** يخيل شقيقها الماء الزلالا وقيل: سميت بذلك لأنها ذات غبار، ومنه قول الراجز: قد اغتدي قبل طلوع الشمس *** للصيد في يوم قليل النحس يريد: قليل الغبار. وقال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: متتابعات كانت آخر شوال من أربعاء إلى أربعاء. وقال السدّي: أولها غداة يوم الأحد. وقال الربيع بن أنس: يوم الجمعة. وقال يحيى بن سلام: يوم الأحد. {لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا}: وهو الهلاك. وقرئ: لتذيقهم بالتاء. وقال الزمخشري: على الإذاقة للريح، أو للأيام النحسات. وأضاف العذاب إلى الخزي إضافة الموصوف إلى صفته لم يأت بلفظة أخرى التي تقتضي المشاركة والتفصيل خبراً عن قوله: {ولعذاب الآخرة}، وهو إسناد مجازي، أو وصف العذاب بالخزي أبلغ من وصفهم به. ألا ترى تفاوت ما بين قولك: هو شاعر، وقوله: له شعر شاعر؟ وقابل استكبارهم بعذاب الخزي، وهو الذل والهوان. وبدأ بقصة عاد، لأنها أقدم زماناً، ثم ذكر ثمود فقال: {وأما ثمود}. وقرأ الجمهور: بالرفع ممنوع من الصرف؛ وابن وثاب، والأعمش، وبكر بن حبيب: مصروفاً، وهي قراءة ابن وثاب، والأعمش في ثمود بالتنوين في جميع القرآن إلا قوله: {وآتينا ثمود الناقة} لأنه في المصحف بغير ألف. وقرئ: ثمود بالنصب ممنوعاً من الصرف، والحسن، وابن أبي إسحاق، والأعمش: ثموداً منونة منصوبة. وروى المفضل عن عاصم الوجهين. انتهى. {فهديناهم}، قال ابن عباس، وقتادة، والسدي، وابن زيد: بينا لهم. قال ابن عطية: وليس الهدى هنا بمعنى الإرشاد. وقال الفراء، وتبعه الزمخشري: فهديناهم: فذللناهم على طريق الضلالة والرشد، كقوله تعالى: {وهديناه النجدين} {فاستحبوا العمى على الهدى}: فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد. فإن قلت: أليس معنى هديته: حصلت فيه الهدى، الدليل عليه قولك: هديته فاهتدى بمعنى تحصيل البغية وحصولها؟ كما تقول: ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجردة؟ قلت: للدلالة على أنه مكنهم وأزاح عللهم ولم يبق لهم عذر ولا علة، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. وقال سفيان: دعوناهم. وقال ابن زيد: أعلمناهم الهدى من الضلال. وقال ابن عطية: فاستحبوا عبارة عن تكسبهم في العمى، وإلا فهو بالاختراع الله، ويدلك على أنها إشارة إلى تكسبهم قوله: {بما كانوا يكسبون}. انتهى. والهون: الهوان، وصف العذاب بالمصدر أو أبدل منه.. وقرأ ابن مقسم: عذاب الهوان، بفتح الهاء وألف بعد الواو. وقال الزمخشري: ولو لم يكن في القرآن حجة على القدرية الذين هم مجوس هذه الأمة بشهادة نبيها صلى الله عليه وسلم وكفى به شاهداً إلا هذه، لكفى بها حجة. انتهى، على عادته في سب أهل السنة. ثم ذكر قريشاً بنجاة من آمن واتقى. قيل: وكان من نجا من المؤمنين ممن استجاب هود وصالح مائة وعشرة أنفس.
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)} لما بين تعالى كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا، أردفه بكيفية عقوبة الكفار أولئك وغيرهم. وانتصب يوم باذكر. وقرأ الجمهور: {يحشر} مبنياً للمفعول، {وأعداء} رفعاً، وزيد بن عليّ، ونافع، والأعرج، وأهل المدينة: بالنون أعداء نصباً، وكسر الشين الأعرج؛ وتقدم معنى {يوزعون} في النمل، و{حتى}: غاية ليحشروا، {أعداء الله}: هم الكفار من الأولين والآخرين، وما بعد إذا زائدة للتأكيد. وقال الزمخشري: ومعنى التأكيد فيها أن وقت مجيئهم النار لا محالة أن يكون وقت الشهادة عليهم، ولا وجه لأن يخلو منها ومثله قوله: {أثم إذا ما وقع آمنتم به} أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به. انتهى. ولا أدري أن معنى زيادة ما بعد إذ التوكيد فيها، ولو كان التركيب بغير ما، كان بلا شك حصول الشرط من غير تأخر، لأن أداة الشرط ظرف، فالشهادة واقعة فيه لا محالة، وفي الكلام حذف، التقدير: {حتى إذا ما جاءوها}، أي النار، وسئلوا عما أجرموا فأنكروا، {شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم} بما اكتسبوا من الجرائم، وكانوا حسبوا أن لا شاهد عليهم. ففي الحديث: «أن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى، ثم تنطق الجوارح فيقول: تباً لك، وعنك كنت أدافع» ولما كانت الحواس خمسة: السمع والبصر والشم والذوق واللمس، وكان الذوق مندرجاً في اللمس، إذ بمماسة جلدة اللسان والحنك للمذوق يحصل إدراك المذوق، وكان حسن الشم ليس فيه تكليف ولا أمر ولا نهي، وهو ضعيف، اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس، إذ هذه هي التي جاء فيها التكليف، ولم يذكر حاسة الشم لأنه لا تكليف فيه، فهذه والله أعلم حكمة الاقتصار على هذه الثلاثة. والظاهر أن الجلود هي المعروفة. وقيل: هي الجوارح كنى بها عنها. وقيل: كنى بها عن الفروج. قيل: وعليه أكثر المفسرين، منهم ابن عباس، كما كنى عن النكاح بالسر. {بما كانوا يعلمون} من الجرائم. ثم سألوا جلودهم عن سبب شهادتها عليهم، فلم تذكر سبباً غير أن الله تعالى أنطقها. ولما صدر منها ما صدر من العقلاء، وهي الشهادة، خاطبوها بقولهم: {لم شهدتم}؟ مخاطبة العقلاء. وقرأ زيد بن علي: لم شهدتن؟ بضمير المؤنثات؟ و{كل شيء}: لا يراد به العموم، بل المعنى: كل ناطق بما ذلك له عادة، أو كان ذلك فيه خرق عادة. وقال الزمخشري: أراد بكل شيء: كل شيء من الحيوان، كما أراد به في قوله: {والله على كل شيء قدير} من المقدورات. والمعنى: أن نطقنا ليس بعجب من قدرة الله الذي قدر على إنطاق كل حيوان، وعلى خلقكم وإنشائكم، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه، وإنما قالوا لهم: {لم شهدتم علينا} لتعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم. وقال الزمخشري أيضاً: فإن قلت: كيف تشهد عليهم أبصارهم وكيف تنطق؟ قلت: الله عز وجل ينطقها، كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاماً. انتهى، وهذا الرجل مولع بمذهبه الاعتزالي، يدخله في كل ما يقدر أنه يدخل. وإنما أشار بقوله: كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاماً إلى أن الله تعالى لم يكلم موسى حقيقة، وإنما الشجرة هي التي سمع منها الكلام بأن يخلق الله فيها كلاماً خاطبته به عن الله تعالى. والظاهر أن قوله: {وما كنتم تستترون} من كلام الجوارح، قيل: ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى توبيخاً لهم، أو من كلام ملك يأمره تعاليه. و{أن يشهد}: يحتمل أن يكون معناه: خيفة أو لأجل أن يشهد إن كنتم غير عالمين بأنها تشهد، {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم}، فانهمكتم وجاهدتم، وإلى هذا نحا مجاهد، والستر يأتي في هذا المعنى، كما قال الشاعر: والستر دون الفاحشات وما *** يلقاك دون الخير من ستر ويحتمل أن يكون معناه: عن أن يشهد، أي وما كنتم تمتنعون، ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد من الشهادة عليكم، وإلى هذا نحا السدي، أو ما كنتم تتوقعون بالاختفاء والستر أن يشهد عليكم، لأن الجوارح لزيمة لكم. وعبر قتادة عن تستترون بتظنون، أي وما كنتم تظنون أن يشهد، وهذا تفسير من حيث المعنى لا من حيث مرادفة اللفظ، {ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً}، وهو الخفيات من أعمالكم، وهذا الظن كفر وجهل بالله وسوء معتقد يؤدي إلى تكذيب الرسل والشك في علم الإله. {وذلكم}: إشارة إلى ظنهم أن الله لا يعلم كثيراً من أعمالهم، وهو مبتدأ خبره {أرداكم}، و{ظنكم} بدل من {ذلكم} أي وظنكم بربكم ذلكم أهلككم. وقال الزمخشري: وظنكم وأرداكم خبران. وقال ابن عطية: أرداكم يصلح أن يكون خبراً بعد خبر. انتهى. ولا يصح أن يكون ظنكم بربكم خبراً، لأن قوله: {ذلكم} إشارة إلى ظنهم السابق، فيصير التقدير: وظنكم بأن ربكم لا يعلم ظنكم بربكم، فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ، وهو لا يجوز؛ وصار نظير ما منعه النحاة من قولك: سيد الجارية مالكها. وقال ابن عطية: وجوز الكوفيون أن يكون معنى أرداكم في موضع الحال، والبصريون لا يجيزون وقوع الماضي حالاً إلا إذا اقترن بقد، وقد يجوز تقديرها عندهم إن لم يظهر. انتهى. وقد أجاز الأخفش من البصريين وقوع الماضي حالاً بغير تقدير قد وهو الصحيح، إذ كثر ذلك في لسان العرب كثرة توجب القياس، ويبعد فيها التأويل، وقد ذكرنا كثرة الشواهد على ذلك في كتابنا المسمى (بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل). {فإن يصبروا}: خطاب للنبي عليه السلام، قيل: وفي الكلام حذف تقديره: أولاً يصبروا، كقوله: {فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم} وذلك في يوم القيامة. وقيل: التقدير: فإن يصبروا على ترك دينك واتباع أهوائهم، {فالنار مثوى لهم}: أي مكان إقامة. وقرأ الجمهور: {وإن يستعتبوا} مبنياً للفاعل، {فما هم من المعتبين}: اسم مفعول. قال الضحاك: إن يعتذروا فما هم من المعذورين؛ وقيل: وإن طلبوا العتبى، وهي الرضا، فما هم ممن يعطاها ويستوجبها. وقرأ الحسن، وعمرو بن عبيد، وموسى الأسواري: وإن يستعتبوا: مبنياً للمفعول، فما هم من المعتبين: اسم فاعل، أي طلب منهم أن يرضوا ربهم، فما هم فاعلون، ولا يكون ذلك لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس بعد الموت مستعتب» وقال أبو ذؤيب: أمن المنون وريبها تتوجع *** والدهر ليس بمعتب من يجزع ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى: ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. ولما ذكر تعالى الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفرة، أردفه بذكر السبب الذي أوقعهم في الكفر فقال: {وقضينا لهم قرناء}: أي سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا. وقيل: سلطنا ووكلنا عليهم. وقيل: قدرنا لهم. وقرناء: جمع قرين، أي قرناء سوء من غواة الجن والإنس؛ {فزينوا لهم}: أي حسنوا وقدروا في أنفسهم؛ {ما بين أيديهم}، قال ابن عباس: من أمر الآخرة، أنه لا جنة ولا نار ولا بعث. {وما خلفهم}، قال ابن عباس: من أمر الدنيا، من الضلالة والكفر ولذات الدنيا. وقال الكلبي: {ما بين أيديهم}: أعمالهم التي يشاهدونها، {وما خلفهم}: ما هم عاملوه في المستقبل. وقال ابن عطية: {ما بين أيديهم}، من معتقدات السوء في الرسل والنبوات ومدح عبادة الأصنام واتباع فعل الآباء، {وما خلفهم}: ما يأتي بعدهم من أمر القيامة والمعاد. انتهى، ملخصاً، وهو شرح قول الحسن، قال: {ما بين أيديهم} من أمر الدنيا، {وما خلفهم} من أمر الآخرة. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز أن يقيض لهم القرناء من الشياطين وهو ينهاهم عن اتباع خطواتهم؟ قلت: معناه أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر، فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين، والدليل عليه: {ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً} انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. {وحق عليهم القول}: أي كلمة العذاب، وهو القضاء المختم، بأنهم معذبون. {في أمم}: أي في جملة أمم، وعلى هذا قول الشاعر: إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو *** كاً ففي آخرين قد أفكوا أي: فأنت في جملة آخرين، أو فأنت في عدد آخرين، لست في ذلك بأوحد. وقيل: في بمعنى مع، ولا حاجة للتضمين مع صحة معنى في. وموضع في {أمم} نصب على الحال، أي كائنين في جملة أمم، وذو الحال الضمير في عليهم. {إنهم كانوا خاسرين}: الضمير لهم وللأمم، وهذا تعليل لاستحقاقهم العذاب. {وقال الذين كفروا لا تسمعوا}: أي لا تصغوا، {لهذا القرآن والغوا فيه}: إذا تلاه محمد صلى الله عليه وسلم. قال أبو العالية: وقعوا فيه وعيبوه. وقال غيره: كان الرسول عليه السلام إذا قرأ في المسجد أصغى إليه الناس من مؤمن وكافر، فخشي الكفار استمالة القلوب بذلك فقالوا: متى قرأ محمد صلى الله عليه وسلم، فلنلغط نحن بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأرجاز حتى يخفى صوته، وهذا الفعل هو اللغو. وقرأ الجمهور والفراء: بفتح الغين مضارع لغى بكسرها؛ وبكر بن حبيب السهمي كذا في كتاب ابن عطية، وفي كتاب اللوامح. وأما في كتاب ابن خالويه، فعبد الله بن بكر السهمي وقتادة وأبو حيوة والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى: بخلاف عنهما، بضم الغين مضارع لغى بفتحها، وهما لغتان، أي ادخلوا فيه اللغو، وهو اختلاف القول بما لا فائدة فيه. وقال الأخفش: يقال لغا يلغى بفتح الغين وقياسه الضم، لكنه فتح لأجل حرف الحلق، فالقراءة الأولى من يلغى. والثانية من يلغو. وقال صاحب اللوامح: ويجوز أن يكون الفتح من لغى بالشيء يلغى به إذا رمى به، فيكون فيه بمعنى به، أي ارموا به وانبذوه. {لعلكم تغلبون}: أي تطمسون أمره وتميتون ذكره. {فلنذيقن الذين كفروا}: وعيد شديد لقريش، والعذاب الشديد في الدنيا كوقعة بدر وغيرها، والأسوأ يوم القيامة. أقسم تعالى على الجملتين، وشمل الذين كفروا القائلين والمخاطبين في قوله: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا}. {ذلك}: أي جزاؤهم في الآخرة، فالنار بدل أو خبر مبتدأ محذوف. وجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف، أي الأمر ذلك، وجزاء مبتدأ والنار خبره. {لهم فيها دار الخلد}: أي فكيف قيل فيها؟ والمعنى أنها دار الخلد، كما قال تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} والرسول نفسه هو الأسوة، وقال الشاعر: وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل *** والمعنى أن الله هو الحكم العدل، ومجاز ذلك أنه قد يجعل الشيء ظرفاً لنفسه، باعتبار متعلقه على سبيل المبالغة، كأن ذلك المتعلق صار الشيء مستقراً له، وهو أبلغ من نسبة ذلك المتعلق إليه على سبيل الإخبارية عنه {جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون}. قال الزمخشري: إن جزاءهم بما كانوا يلغون فيها، فذكر الجحود الذي هو سبب اللغو. ولما رأى الكفار عظم ما حل بهم من عذاب النار، سألوا من الله تعالى أن يريهم من كان سبب إغوائهم وإضلالهم. والظاهر أن {اللذين} يراد بهما الجنس، أي كل مغو من هذين النوعين، وعن علي وقتادة: أنهما إبليس وقابيل، إبليس سن الكفر، وقابيل سن القتل بغير حق. قيل: وهل يصح هذا القول؟ عن علي: وقابيل مؤمن عاص، وإنما طلبوا المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود، وقد أصلح هذا القول بأن قال: طلب قابيل كل عاص من أهل الكبائر، وطلب إبليس كل كافر، ولفظ الآية ينبو عن هذا القول وعن إصلاحه، وتقدم الخلاف في قراءة {أرنا} في قوله: {وأرنا مناسكنا} وقال الزمخشري: حكوا عن الخليل أنك إذا قلت: أرني ثوبك بالكسر، فالمعنى: بصرنيه، وإذا قلته بالسكون، فهو استعطاء معناه: أعطني ثوبك؛ ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء، وأصله الإحضار. انتهى. {نجعلهما تحت أقدامنا}: يريدون في أسفل طبقة من النار، وهي أشد عذاباً، وهي درك المنافقين. وتشديد النون في اللذين واللتين وهذين وهاتين حالة كونهما بالياء لا تجيزه البصريون، والقراءة بذلك في السبعة حجة عليهم.
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} قال ابن عباس: نزلت في الصديق، قال المشركون: ربنا الله، والملائكة بناته، وهؤلاء شفعاؤنا عنده. واليهود: ربنا الله، والعزير ابنه، ومحمد ليس بنبي، فلم يستقيما، والصديق قال: ربنا الله وحده لا شريك له، ومحمد عبده ورسوله، فاستقام. ولما أطنب تعالى في وعيد الكفار، أردفه بوعيد المؤمنين؛ وليس المراد التلفظ بالقول فقط، بل لا بد من الاعتقاد المطابق للقول اللساني. وبدأ أولاً بالذي هو أمكن في الإسلام، وهو العلم بربوبية الله، ثم أتبعه بالعمل الصالح، وهو الاستقامة. وعن سفيان بن عبد الله الثقفي، قلت للنبي، صلى الله عليه وسلم: أخبرني بأمر أعتصم به، قال: " قل ربي الله ثم استقم " قلت: ما أخوف ما تخاف علي، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال: «هذا» وعن الصديق: ثم استقاموا على التوحيد، لم يضطرب إيمانهم. وعن عمر: استقاموا لله بطاعته لم يرو غواروا روغان الثعالب. وعن عثمان: أخلصوا العمل. وعن علي: أدوا الفرائض. وقال أبو العالية، والسدي: استقاموا على الإخلاص والعمل إلى الموت. وقال الثوري: عملوا على وفاق ما قالوا. وقال الفضل: زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية. وقال الربيع: أعرضوا عن ما سوى الله تعالى. وقيل: استقاموا فعلا كما استقاموا قولاً. وعن الحسن وقتادة وجماعة: استقاموا بالطاعات واجتناب المعاصي. قال الزمخشري: وثم لتراخي الاستقامة عن الإقرار في المرتبة وفضلها عليه، لأن الاستقامة لها الشأن كله، ونحوه قوله تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} والمعنى: ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته. وعن الصديق رضي الله عنه أنه تلاها ثم قال: ما تقولون فيها؟ قالوا: لم يذنبوا، قال: حملتم الأمر على أشده، قالوا: فما تقول؟ قال لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان. انتهى. {تتنزل عليهم الملائكة}، قال مجاهد والسدي: عند الموت. وقال مقاتل: عند البعث. وقيل: عند الموت، وفي القبر، وعند البعث. وأن ناصبة للمضارع، أي بانتفاء خوفكم وحزنكم، قال معناه الحوفي وأبو البقاء. وقال الزمخشري: بمعنى أي أو المخففة من الثقيلة، وأصله بأنه لا تخافوا، والهاء ضمير الشأن. انتهى. وعلى هذين التقديرين يكون الفعل مجزوماً بلا الناهية، وهذه آية عامة في كل هم مستأنف وتسلية تامة عن كل فائت ماض، ولذلك قال مجاهد: لا تخافوا ما تقدرون عليه، ولا تحزنوا على ما خلفتم من دنياكم. وقال عطاء بن أبي رباح: {لا تخافوا} رد ثوابكم، فإنه مقبول؛ {ولا تحزنوا} على ذنوبكم، فإني أغفرها لكم. وفي قراءة عبد الله: لا تخافوا، بإسقاط أن، أي تتنزل عليهم الملائكة قائلين: لا تخافوا ولا تحزنوا. ولما كان الخوف مما يتوقع من المكروه أعظم من الحزن على الفائت قدمه، ثم لما وقع الأمن لهم، بشروا بما يؤولون إليه من دخول الجنة، فحصل لهم من الأمن التام والسرور العظيم بما سيفعلون من الخير. {نحن أوليائكم}: الظاهر أنه من كلام الملائكة، أي يقولون لهم. وفي قراءة عبد الله: يكون من جملة المقول قبل، أي نحن كنا أولياءكم في الدنيا، ونحن أولياؤكم في الآخرة. لما كان أولياء الكفار قرناؤهم من الشياطين، كان أولياء المؤمنين الملائكة. وقال السدي: نحن حفظتكم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة. وقيل: {نحن أوليائكم} من كلام الله تعالى، أولياؤكم بالكفاية والهداية، {ولكم فيها}: الضمير عائد على الآخرة، قاله ابن عطية. وقال الحوفي: على الجنة، {ما تشتهي أنفسكم} من الملاذ، {ولكم فيها ما تدعون}. قال مقاتل: ما تتمنون. وقيل: ما تريدون. وقال ابن عيسى: ما تدعي أنه لك، فهو لك بحكم ربك. قال ابن عطية: ما تطلبون. {نزلاً من غفور رحيم} النزل: الرزق المقدم للنزيل وهو الضيف، قال معناه ابن عطاء، فيكون نزلاً حالاً، أي تعطون ذلك في حال كونه نزولاً لا نزلاً، وجعله بعضهم مصدراً لأنزل. وقيل نزل جمع نازل، كشارف وشرف، فينتصب على الحال، أي نازلين، وذو الحال الضمير المرفوع في يدعون. وقال الحسن: معنى نزلاً منا، وقيل: ثواباً. وقرأ أبو حيوة: نزلاً بإسكان الزاي. ولما تقدم قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، ذكر من دعا إلى ذلك فقال: {ومن أحسن قولاً}: أي لا أحد أحسن قولاً ممن يدعو إلى توحيد الله، ويعمل العمل الصالح، ويصرح أنه من المستسلمين لأمر الله المنقادين له، والظاهر العموم في كل داع إلى الله، وإلى العموم ذهب الحسن ومقاتل وجماعة. وقيل بالخصوص، فقال ابن عباس: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا إلى الإسلام، وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه، وجعل الإسلام نحلة. وعنه أيضاً: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت عائشة، وقيس بن أبي حازم، وعكرمة، ومجاهد: نزلت في المؤذنين، وينبغي أن يتأول قولهم على أنهم داخلون في الآية، وإلا فالسورة بكمالها مكية بلا خلاف. ولم يكن الأذان بمكة، إنما شرع بالمدينة، والدعاء إلى الله يكون بالدعاء إلى الإسلام وبجهاد الكفار وكف الظلمة. وقال زيد بن علي: دعا إلى الله بالسيف، وهذا، والله أعلم، هو الذي حمله على الخروج بالسيف على بعض الظلمة من ملوك بني أمية. وكان زيد هذا عالماً بكتاب الله، وقد وقفت على جملة من تفسيره كتاب الله وإلقائه على بعض النقلة عنه وهو في حبس هشام بن عبد الملك، وفيه من العلم والاستشهاد بكلام العرب حظ وافر، يقال: إنه كان إذا تناظر هو وأخوه محمد الباقر اجتمع الناس بالمحابر يكتبون ما يصدر عنهما من العلم، رحمهما الله ورضي عنهما. وقال أبو العالية: {وعمل صالحاً}: صلى بين الأذان والإقامة. وقال عكرمة: صلى وصام. وقال الكلبي: أدّى الفرائض. وقال مجاهد: هي عامة في كل من جمع بين هذه الثلاثة أن يكون موحداً معتقداً لدين الإسلام، عاملاً بالخير داعياً إليه، ومآلهم إلى طبقة العالمين العاملين من أهل العدل والتوحيد الدعاة إلى دين الإسلام. انتهى، ويعني بذلك المعتزلة، يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد، ويوجد ذلك في أشعارهم، كما قال ابن أبي الحديد المعتزلي، صاحب كتاب (الفلك الدائر في الرد على كتاب المثل السائر)، قال من كلامه: أنشدنا عنه الإمام الحافظ شرف الدين عبد المؤمن بن خلف الدمياطي رحمه الله تعالى: لولا ثلاث لم أخف صرعتي *** ليست كما قال فتى العبد أن أنصر التوحيد والعدل في *** كل مقام باذلاً جهدي وأن أناجي الله مستمتعاً *** بخلوة أحلى من الشهد وأن أصول الدهر كبراً على *** كل لئيم أصعر الخد لذاك أهوى لا فتاة ولاخمر *** ولا ذي ميعة نهد {وقال إنني من المسلمين}: ليس المعنى أنه تكلم بهذا، بل جعل الإسلام معتقده. كما تقول: هذا قول الشافعي، أي مذهبه. وقرأ ابن أبي عبلة، وإبراهيم بن نوح عن قتيبة الميال: وقال إني، بنون مشددة واحدة؛ والجمهور: إنني بها وبنون الوقاية. وقال أبو بكر بن العربي: لم يشترط إلا إن شاء الله، ففيه رد على من يقول: أنا مسلم إن شاء الله. ولما ذكر تعالى أنه لا أحد أحسن ممن دعا إلى الله، ذكر ما يترتب على ذلك من حسن الأخلاق، وأن الداعي إلى الله قد يجافيه المدعو، فينبغي أن يرفق به ويتلطف في إيصال الخير فيه. قيل: ونزلت في أبي سفيان بن حرب، وكان عدوًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار ولياً مصافياً. وقال ابن عباس: الحسنة لا إله إلا الله، والسيئة الشرك. وقال الكلبي: الدعوتان إليهما. وقال الضحاك: الحلم والفحش. وعن علي: حب الرسول وآله وبغضهم. وقيل: الصبر والنفور. وقيل: المداراة والغلظة. وقيل: العفو والاقتصاد، وهذه أمثلة للحسنة والسيئة، لا على طريق الحصر. ولما تفاوتت الحسنة والسيئة، أمر أن يدفع السيئة بالأحسن، وذلك مبالغة، ولم يقل: ادفع بالحسنة السيئة، لأن من هان عليه الدفع بالأحسن هان عليه الدفع بالحسن، أي وإذا فعلت ذلك، {فإذا الذي بينك وبينه عداوة} صار لك كالولي: الصديق الخالص الصداقة، ولا في قوله: {ولا السيئة} زائدة للتوكيد، كهي في قوله: {ولا الظل ولا الحرور} لأن استوى لا يكتفي بمفرد، فإن إحدى الحسنة والسيئة جنس لم تكن زيادتها كزيادتها في الوجه الذي قبل هذا، إذ يصير المعنى: ولا تستوي الحسنات، إذ هي متفاوتات في أنفسها، ولا السيئات لتفاوتها أيضاً. قال ابن عطية: دخلت كأن للتشبيه، لأن الذي عند عداوة لا يعود ولياً حميماً، وإنما يحسن ظاهره، فيشبه بذلك الولي الحميم، وعن ابن عباس: {بالتي هي أحسن}: الصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة. وقال مجاهد، وعطاء: السلام عند اللقاء. انتهى، أي هو مبدأ الدفع بالأحسن، لأنه محصور فيه. وعن مجاهد أيضاً: أعرض عن أذاهم. وقال أبو فراس الحمداني: يجني عليّ وأجنو صافحاً أبدا *** لا شيء أحسن من جان على جان {وما يلقاها}: الضمير عائد على الفعلة والسجية التي هي الدفع بالأحسن. وقرأ طلحة بن مصرف، وابن كثير في رواية: وما يلاقاها: من الملاقاة. وقرأ الجمهور: من التلقي، وكأن هذه الخصلة الشريفة غائبة، فما يصادفها ويلقيها الله إلا لمن كان صابراً على الطاعات، صارفاً عن الشهوات، ذا حظ عظيم من خصال الخير، قاله ابن عباس، فيكون مدحاً؛ أو {ذو حظ عظيم} من ثواب الآخرة، قاله قتادة، فيكون وعداً. وقيل: إلا ذو عقل. وقيل: ذو خلق حسن، وكرر {وما يلقاها} تأكيداً لهذه الفعلة الجميلة الجليلة. وقيل: الضمير في يلقاها عائد على الجنة. وحكى مكي: {وما يلقاها}: أي شهادة أن لا إله إلا الله، وفيه بعد. ولما أمر تعالى بدفع السيئة بالأحسن، كان قد يعرض للمسلم في بعض الأوقات مقابلة من أساء بالسيئة، فأمره، إن عرض له ذلك، أن يستعيذ بالله، فإن ذلك من نزغ الشيطان، وتقدم تفسير نظير هذه الآية في أواخر الأعراف. ولما بين تعالى أن أحسن الأعمال والأقوال هو نظير هذه الآية الدعوة إلى الله، أردفه بذكر الدلائل العلوية والسفلية، وعلى قدرته الباهرة وحكمته البالغة وحجته القاطعة، فبدأ بذكر الفلكيات بالليل والنهار، وقدم ذكر الليل، قيل تنبيهاً على أن الظلمة عدم والنور وجود، وناسب ذكر الشمس بعد النهار، لأنها سبب لتنويره ويظهر العالم فيه، ولأنها أبلغ في التنوير من القمر، ولأن القمر فيما يقولون مستفاد نوره من نور الشمس. ثم نهى تعالى عن السجود لهما، وأمر بالسجود للخالق تعالى. وكان ناس يعبدون الشمس، كما جاء في قصة بلقيس وقومها. والضمير في {خلقهن} عائد على الليل والنهار والشمس والقمر. قال الزمخشري: لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى، أي الإناث، يقال: الأقلام بريتها وبريتهن. انتهى، يريد ما لا يعقل من الذكر، وكان ينبغي أن يفرق بين جمع القلة من ذلك، فإن الأفصح أن يكون كضمير الواحدة، تقول: الأجذاع انكسرت على الأفصح، والجذوع انكسرن على الأفصح. والذي تقدّم في الآية ليس بجمع قلة، أعني بلفظ واحد، ولكنه ذكر أربعة متعاطفة، فتنزلت منزلة الجمع المعبر عنها بلفظ واحد. وقال الزمخشري: ولما قال: {ومن آياته}، كن في معنى الآيات، فقيل: {خلقهن}. انتهى، يعني أن التقدير والليل والنهار والشمس والقمر آيات من آياته، فعاد الضمير على آيات الجمع المقدر في المجرور. وقيل: يعود على الآيات المتقدم ذكرها. وقيل: على الشمس والقمر، والاثنان جمع، وجمع ما لا يعقل يؤنث، ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام والليالي، ساغ أن يعود الضمير مجموعاً. {إن كنتم إياه تعبدون}: أي إن كنتم موحدين غير مشركين، والسجدة عند الشافعي عند قوله: {تعبدون}، وهي رواية مسروق عن عبد الله لذكر لفظ السجدة قبلها، وعند أبي حنيفة عند قوله: {لا يسأمون}، لأنها تمام المعنى، وفي التحرير: كان علي وابن مسعود يسجدان عند {تعبدون}. وقال ابن وهب والشافعي: عند {يسأمون}، وبه قال أبو حنيفة، وسجد عندها ابن عباس وابن عمر وأبو وائل وبكر بن عبد الله، وكذلك روي عن مسروق والسلمي والنخعي وأبي صالح وابن سيرين. انتهى ملخصاً. {فإن استكبروا}: أي تعاظموا على اجتناب ما نهيت من السجود لهذين المحدثين المربوبين، وامتثال ما أمرت به من السجود للخالق لهن؛ فإن الملائكة الذين هم عند الله بالمكانة والرتبة الشريفة ينزهونه عن ما لا يليق بكبريائه، {وهم لا يسأمون}: أي لا يملون ذلك، وهم خير منكم، مع أنه تعالى غني عن عبادتكم وعبادتهم. ولما ذكر شيئاً من الدلائل العلوية، ذكر شيئاً من الدلائل السفلية فقال: {ومن أياته أنك ترى الأرض خاشعة}: أي غبراء دارسة، كما قال: ونؤى كجذم الحوض أبلم خاشع *** استعير الخشوع لها، وهو التذلل لما ظهر بها من القحط وعدم النبات وسوء العيش عنها، بخلاف أن تكون معشبة وأشجاراً مزهرة ومثمرة، فذلك هو حياتها. وقال السدّي: خاشعة ميتة يابسة، وتقدّم الكلام على قوله: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} تفسيراً وقراءة في أوائل سورة الحج. {إن الذين أحياها لموحي الموتى}: يرد الأرواح إلى الأجساد، {إنه على كل شيء قدير}: لا يعجزه شيء تعلقت به إرادته.
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)} لما بين تعالى أن الدعاء إلى دين الله أعظم القربات، وأنه يحصل ذلك بذكر دلائل التوحيد والعدل والبعث، عاد إلى تهديد من ينازع في تلك الآيات ويجادل، فقال: {إن الذين يلحدون بآيتنا}، وتقدم الكلام على الإلحاد في قوله: {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} وذكر تعالى أنهم لا يخفون عليه، وفي ذلك تهديد لهم. وقال قتادة: هنا الإلحاد: التكذيب، ومجاهد: المكاء والصفير واللغو. وقال ابن عباس: وضع الكلام غير موضعه. وقال أبو مالك: يميلون عن آياتنا. وقال السدي: يعاندون رسلنا فيما جاءوا فيه من البينات والآيات. ثم استفهم تقريراً: {أفمن يلقى في النار}، بإلحاده في آياتنا، {خير أم من يأتي آمناً}، ولا اشتراك بين الإلقاء في النار والإتيان آمناً، لكنه، كما قلنا، استفهام تقرير، كما يقرر المناظر خصمه على وجهين، أحدهما فاسد يرجو أن يقع في الفاسد فيتضح جهله، ونبه بقوله: {يلقى في النار} على مستقر الأمر، وهو الجنة، وبقوله: {آمنا} على خوف الكافر وطول وجله، وهذه الآية، قال ابن بحر: عامة في كل كافر ومؤمن. وقال مقاتل: نزلت في أبي جهل وعثمان بن عفان. وقيل: فيه وفي عمار بن ياسر. وقيل: فيه وفي عمر. وقيل: في أبي جهل وحمزة بن عبد المطلب. وقال الكلبي: وأبو جهل والرسول صلى الله عليه وسلم. ولما تقدم ذكر الإلحاد، ناسب أن يتصل به من التقرير من اتصف به. ولم يكن التركيب: أم من يأتي آمناً يوم القيامة كمن يلقي في النار، كما قدم ما يشبهه في قوله: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} وكما جاء في سورة القتال: {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء علمه} {اعلموا ما شئتم}: وعيد وتهديد بصيغة الأمر، ولذا جاء {إنه بما تعملون بصير} فيجازيكم بأعمالكم. {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم}: هم قريش ومن تابعهم من الكفار غيرهم، والذكر: القرآن هو بإجماع، وخبر إن اختلفوا فيه أمذكور هو أو محذوف؟ فقيل: مذكور، وهو قوله: {أولئك ينادون من مكان بعيد}، وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة. سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال: لم أجد لها نفاذاً، فقال له أبو عمرو: وإنه منك لقريب {أولئك ينادون}. وقال الحوفي: ويرد على هذا القول كثرة الفصل، وأنه ذكر هناك من تكون الإشارة إليهم، وهو قوله: {والذين لا يؤمنون في آذناهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون}. وقيل: محذوف، وخبر إن يحذف لفهم المعنى. وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو: معناه في التفسير: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به، وإنه لكتاب، فقال عيسى: أجدت يا أبا عثمان. وقال قوم: تقديره معاندون أو هالكون. وقال الكسائي: قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل إن، وهو قوله: {أفمن يلقى في النار}. انتهى، كأنه يريد: دل عليه ما قبله، فيمكن أن يقدر يخلدون في النار. وقال الزمخشري: فإن قلت: بم اتصل قوله: {إن الذين كفروا بالذكر}؟ قلت: هو بدل من قوله: {إن الذين يلحدون في آياتنا}. انتهى. ولم يتعرض بصريح الكلام في خبر إن أمذكور هو أو محذوف، لكن قد ينتزع من كلامه هذا أنه تكلم فيه بطريق الإشارة إليه، لأنه ادّعى أن قوله: {إن الذين كفروا بالذكر} بدل من قوله: {إن الذين يلحدون}، فالمحكوم به على المبدل منه هو المحكوم به على البدل، فيكون التقدير: {إن الذين يلحدون في آياتنا}، {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم} لا يخفون علينا. وقال ابن عطية: والذي يحسن في هذا هو إضمار الخبر بعد {حكيم حميد}، وهو أشد إظهاراً، لأن قوله: {وإنه لكتاب عزيز} داخل في صفة الذكر المكذب به، فلم يتم ذكر المخبر عنه إلا بعد استيفاء وصفه. انتهى، وهو كلام حسن. والذي أذهب إليه أن الخبر مذكور، لكنه حذف منه عائد يعود على اسم إن، وذلك في قوله: {لا يأتيه بالباطل}: أي الباطل منهم، أي الكافرون به، وحالة هذه لا يأتيه باطلهم، أي متى رامو فيه أن يكون ليس حقاً ثابتاً من عند الله وإبطالاً له لم يصلوا إليه، أو تكون أل عوضاً من الضمير على قول الكوفيين، أي لا يأتيه باطلهم، أو يكون الخبر قوله: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك}، أي أوحى إليك في شأن هؤلاء المكذبين لك. ولما جئت به مثل ما أوحى إلي من قبلك من الرسل، وهو أنهم عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك، وفي الآخرة بالعذاب الدائم. وغاية ما في هذين التوجهين حذف الضمير العائد على اسم إن، وهو موجود، نحو قوله: السمن منوان بدرهم: أي منوان منه والبركرّ بدرهم: أي كر منه. وعن بعض نحاة الكوفة: الخبر في قوله: {وإنه لكتاب عزيز}، وهذا لا يتعقل. {وإنه لكتاب عزيز}: جملة حالية، كما تقول: جاء زيد وأن يده على رأسه، أي كفروا به، وهذه حاله وعزته كونه عديم النظير لما احتوى عليه من الإعجاز الذي لا يوجد في غيره من الكتب، أو غالب ناسخ لسائر الكتب والشرائع. وقال ابن عباس: عزيز كريم على الله تعالى. وقال مقاتل: ممتنع من الشيطان. وقال السدي: غير مخلوق. وقيل: وصف بالعزة لأنه لصحة معانيه ممتنع الطعن فيه والإزراء عليه، وهو محفوظ من الله، {لا يأتيه بالباطل} من جعل خبر إن محذوفاً، أو قوله: {أولئك ينادون}، كانت هذه الجملة في موضع الصفة على ما اخترناه من أحد الوجهين تكون الجملة في موضع خبر إن، والمعنى أن الباطل لا يتطرق إليه {من بين يديه ولا من خلفه}، تمثيل: أي لا يجد الطعن سبيلاً إليه من جهة من الجهات، فيتعلق به. وأما ظهر من بعض الحمقى من الطعن على زعمهم، ومن تأويل بعضهم له، كالباطنية، فقد رد عليهم علماء الإسلام وأظهروا حماقاتهم. وقال قتادة: الباطل الشيطان، واللفظ لا يخص الشيطان. وقال ابن جبير والضحاك: {من بين يديه}: أي كتاب من قبله فيبطله، ولا من بعده فيكون على هذا الباطل في معنى المبطل نحو: أورس النبات فهو وارس، أي مورس، أو يكون الباطل بمعنى المبطل مصدراً، فيكون كالعافية. وقيل: {من بين يديه}: أي قبل أن يتم نزوله، {ولا من خلفه}: من بعد نزوله. وقيل عكس هذا. وقيل: {من بين يديه}: قبل أن ينزل، لأن الأنبياء بشرت به، فلم يقدر الشيطان أن يدحض ذلك، {ولا من خلفه}: بعد أن أنزل. وقال الطبري: {من بين يديه}: لا يقدر ذو باطل أن يكيده بتغيير ولا تبديل، {ولا من خلفه}: لا يستطيع ذو باطل أن يلحد فيه. {تنزيل}: أي هو تنزيل، {من حكيم}: أي حاكم أو محكم لمعانية، {حميد}: محمود على ما أسدى لعباده من تنزيل هذا الكتاب وغيره من النعم. {ما يقال لك}: يقال مبني للمفعول، فاحتمل أن يكون القائل الله تعالى، كما تقدم تأويلها فيه، أي ما يوحي إليك الله إلا مثل ما أوحى إلى الرسل في شأن الكفار، كما تأولناه على أحد الوجهين أو في الشرائع. وجوزوا على أن القائل هو الله أن يكون. {إن ربك}: تفسير لقوله: {ما قد قيل}، فالمقول {إن ربك لذو مغفرة} للطائعين، {وذو عقاب أليم} للعاصين، وهذا التأويل فيه بعد، لأنه حصر ما أوحى الله إليه وإلى الرسل في قوله: {إن ربك لذو مغفرة وذو غقاب أليم}، وهو تعالى قد أوحى إليه وإليهم أشياء كثيرة. فإذا أحذناه على الشرائع أو على عاقبة المكذبين كان الحصر صحيحاً، وكان قوله تعالى: {إن ربك} استئناف إخبار عنه تعالى لا تفسير لما قد قيل. ويحتمل أن يكون القائل الكفار، أي مايقول لك كفار قومك إلا ما قد قال كفار الرسل لهم من الكلام المؤذي والطعن فيما أنزل الله عليهم من الكتب. ثم أخبر تعالى أنه ذو مغفرة وذو عقاب أليم، وفيه الترجئة بالغفران، والزجر بالعقاب، وهو وعظ وتهديد. وقال قتادة: عزى الله نبيه وسلاه بقوله: {ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك}، ومثله كذلك: {ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} ولما ذكر تعالى الملحدين في آياته، وأنهم لا يخفون عليه، والكافرين بالقرآن ما دل على تعنتهم وما ظهر من تكذيبهم، وقولهم: هل أنزل بلغة العجم؟ فقال: {ولو جعلناه قرآناً أعجمياً}: أي لا يفصح ولا تبين معانيه لهم لكونه بلغة العجم أو بلغة غير العرب، لم يتركوا الاعتراض، و{لولا فصلت أياته}: أي بينت لنا، وأوضحت حتى نفهمها. وقرأ الجمهور: آعجمي بهمزة الاستفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي، وقياسها في التخفيف التسهيل بين بين. وقرأ الإخوان، والأعمش، وحفص: بهمزتين، أي وقالوا منكرين: أقرآن أعجمي ورسول عربي؟ أو مرسل إليه عربي؟ وتأوله ابن جبير أن معنى قوله: {أعجمي}، ونحن عرب ما لنا وللعجمة. وقال ابن عطية: لانهم ينكرون ذلك فيقولون: لولا بين أعجمي وعربي مختلط هذا لا يحسن. انتهى. ولا يصح هذا التقسيم لأنه بالنسبة للقرآن، وهم إنما قالوا ما دل عليه قوله تعالى: {ولو جعلناه قرآناً أعجمياً}، من اقتراحهم أن يكون أعجمياً، ولم يقترحوا أن يكون القرآن أعجمياً وعربياً. وقرأ الحسن، وأبو الاسود، والجحدري، وسلام، والضحاك، وابن عباس، وابن عامر بخلاف عنهما: أعجمي وعربي دون استفهام وسكون العين، فقيل معناه: أنهم قالوا: أعجمة وأعراب، إن هذا لشاذ. وقال ابن جبير معناه: لولا فصل فصلين، فكان بعضه أعجمياً بفهمه العجم، وبعضه عربياً يفهمه العرب. وقال صاحب اللوامح: لأنهم لما قالوا: {لولا فصلت آياته}، أعادوا القول ثانياً فقالوا: {أعجمي}، وأضمر المبتدأ، أي هو أعجمي، والقرآن، أو الكلام، أو نحوها، والذي أتى به، أو الرسول عربي، كأنهم كانوا ينكرون ذلك. وقرأ عمرو بن ميمون: أعجمي بهمزة استفهام وفتح العين أن القرآن لو جاء على طريقة كائنة كانوا تعنتوا، لأنهم لا يطلبون الحق. وقال صاحب اللوامح: والعجمي المنسوب إلى العجم، والياء للنسب على الحقيقة؛ وأما إذا سكنت العين فهو الذي لا يفصح، والياء فيه بلفظ النسب دون معناه، فهو بمنزلة ياء كرسي وبختي، والله أعلم. انتهى، وليست كياء كرسي بنيت الكلمة عليها، وياء أعجمي لم تبن الكلمة عليها. تقول العرب: رجل أعجم ورجل أعجمي، فالياء للنسبة الدالة على المبالغة في الصفة، نحو: أحمري ودواري مبالغة في أحمر ودوار. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح أن يراد بالعربي المرسل إليهم وهم أمة العرب؟ قلت: هو على ما يجب أن يقع في إنكار المنكر لو رأى كتاباً عجمياً كتب إلى قوم من العرب يقول: أكتاب عجمي والمكتوب إليه عربي؟ لأن نسخ الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمكتوب إليه، لا على أن المكتوب إليه واحد وجماعة؛ فوجب أن يجرد لما سيق له من الغرض، ولا يوصل به ما يخل غرضاً آخر. ألا تراك تقول: وقد رأيت لباساً طويلاً على امرأة قصيرة، اللباس طويل واللابس قصير؟ ولو قلت: واللابسة قصيرة، جئت بما هو لكنة وفضول قول، لإن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته، إنما وقع في غرض وراءهما. انتهى، وهو حسن، إلا أن فيه تكثيراً على عادته في حب الشقشقة والتفهيق. {قل هو}: أي القرآن، {للذين آمنوا هدى وشفاء}، هدى: أي إرشاد إلى الحق، وشفاء: أي لما في الصدور من الظن والشك. والظاهر أن {والذين لا يؤمنون} مبتدأ، و{وفي آذانهم وقر} هو موضع الخبر. وقال الزمخشري: هو في آذانهم وقر على حذف المبتدأ لما أخبر أنه هدى وشفاء للمؤمنين، أخبر أنه وقر وصمم في آذانهم، أي الكافرين، ولا يضطر إلى إضمار هو، فالكلام تام دونه أخبر أن في آذانهم صمماً عن سماعهم. ثم أخبر أنه عليهم عمى، يمنعهم من إبصار حكمته والنظر في معانيه والتقرير لآياته، وجاء بلفظ عليهم الدالة على استيلاء العمى عليهم، وجاء في حق المؤمنين باللام الدالة على الاختصاص، وكون والذين في موضع جر عطفاً على قوله: {للذين آمنوا}، والتقدير: وللذين لا يؤمنون وقر في آذانهم إعراب متكلف، وهو من العطف على عاملين، وفيه مذاهب كثيرة في النحو، والمشهور منع ذلك. وقرأ الجمهور: عمى بفتح الميم منوناً: مصدر عمى. وقرأ ابن عمرو، وابن عباس، وابن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، وابن هرمز: بكسر الميم وتنوينه. وقال يعقوب القارئ، وأبو حاتم: لا ندري نونوا أم فتحوا الياء، على أنه فعل ماض وبغير تنوين، رواها عمرو بن دينار وسليمان بن قتيبة عن ابن عباس. والظاهر أن الضمير في {وهو عليهم} عائد على القرآن، وقيل: يعود على الوقر. {أولئك} إشارة إلى الذين لا يؤمنون، ومن جعله خبراً، لأن الذين كفروا كانت الإشارة إليهم. {ينادون من مكان بعيد}، قيل: هو حقيقة. قال الضحاك: ينادون بكفرهم وقبح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم ويحل المصاب. وقال علي ومجاهد: استعارة لقلة فهمهم، شبههم بالرجل ينادي من بعد، فيسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه. وحكى أهل اللغة أنه يقال للذي لا يفهم: أنت تنادي من بعيد، أي كأنه ينادي من موضع بعيد، فهو لا يسمع النداء ولا يفهمه. وحكى النقاش: كأنما ينادون من السماء. {ولقد آتينا موسى الكتاب} تسلية للرسول في كون قومه اضطربوا فيما جاء به من الذكر، فذكر أن موسى عليه السلام أوتي الكتاب، وهو التوراة؛ فاختلف فيه. وتقدم شرح هذه الآية في أواخر سورة هود عليه السلام، والكلام على نظير {وما ربك بظلام للعبيد} في قوله في سورة الحج: {وأن الله ليس بظلام للعبيد.}
|